فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}.
غُيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هُنا: فابتدىءَ ذِكرُ هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأنًا غير شأن القصص الماضية، ولا أحسب ذلك إلاّ من أجل أن هذه القصة ليست مما كُتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم، ولكنها مما كان مرويًا عن أحبارهم، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أْطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها، وهم كانوا يكتمونها، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عَقب الموعظة أثرًا قد تعيّر الأمة به، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعطة، فالأمة في خُوَيْصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلاّ بإصلاح الحال، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولتْ الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزًا عليها ومعرّة تُعير بها، وكذلك كان شَأن اليهود لما أضاعوا مُلكهم ووطنهم وجاوروا أممًا أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مَسَاوي تاريخهم، حتى أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم، وما بقي معرّة لأخلافهم، وذلك تَحدّ لهم، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد.
فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وَعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم، وليس سؤالَ الاستفادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان {وأسألهم عن القرية} وزان: أعدَوْتُم في السَبْت، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائِل عما لا يعلمه ليعلمه، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائِل يعلم حصول المسؤول عنه، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره.
وجملة: {واسألهم} عطف على جملة: {وإذْ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} [الأعراف: 161] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله: {وقَطّعنْاهم} [الأعراف: 168]، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل.
وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} الآية من سورة البقرة (65).
وهذه القرية قيل: أْيلة وهي المسماة اليوم العقبة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرببِ منه، لأن الحضور يستلزم القرب، وكانت أيلة متصلة بخليج من البحر الأحمر وهو القلزم.
وقيل هي طبرية وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية، وقد قال المفسرون: إن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود.
وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله: {إذ يعْدُون} أي أهلها.
والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله: {إذ يعدون في السبت} إلخ فقوله: {إذ يعدون في السبت} بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم.
فتقدير الكلام: وأسألهم إذ يعدُو أهل القرية في السبت و{إذْ} فيه اسم زمان للماضي، وليست ظرفًا.
والعدوان الظلم ومخالفة الحق، وهو مشتق من العدوْ وبسكون الدال وهو التجاوز.
والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة، وتقدم عند قوله تعالى: {وقُلنا لهم لا تَعدُوا في السبت} في سورة النساء (154).
واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم.
وتعدية فعل {يعدون} إلى {في السبت} مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت، نظرًا إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت، ونظرًا إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان مَنوطًا بحق خاص بيوم السبت، وذلك هو حق عدم العمل فيه، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة.
وهدف {في} للظرفية، لأن العدوان وقع في شأن نقص حرمة السبت.
وقوله: {إذ تأتيهم حيتانهم} ظرف ل {يعْدُون} أي يَعْدون حين تأتيهم حيتانهم.
والحيتان جمع حوت، وهو السمكة، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فُلْك، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد، والجمعُ حيتان.
وقوله: {شُرّعًا} هو جمع شارع، صفة للحوت الذي هو المفرد، قال ابن عباس: أي ظاهرة على الماء، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله، وقال الضحاك: {شُرَعًا} متتابعة مصطفة، أي فهو كناية عن كثرة ما يَرد منها يومَ السبت.
وأحسب أن ذلك وصف من شَرَعَتْ الإبل نحو الماء أي دخلتْ لتشرب، وهي إذا رعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه، فمثلت هيئة الحيتان، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسّن ذلك وجود الماء في الحالتين، وهذا أحسن تفسيرًا.
والمعنى: أنهم يَعْدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمنًا فيه.
وقوله: {يوم سبتهم} يجوز أن يكون لفظ سبت مصدَر سبتَ إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله: {ويوم لا يسبتون} فإنه مضارع سَبت، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى: إنهم إذا حفظوا حرمة السبت، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت، جاءت الحيتان يومئذٍ شُرعًا آمنة، وإذا بعثهم الطمع في ورفة الصيد فأعدُّوا له آلاته، وعزموا على الصيد لم تأتهم.
ويجوز أن يكون لفظ {سبتهم} بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود، تعريضًا بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد، كقول أحد الطائينَ:
عَلاَ زيدْنا يوم النّقا رأسَ زيدِكم ** بأبيض ماضي الشفرتين يَمانِ

وقول ربيعة بن ثابت الأسدي:
لشتان ما بين اليزيدين في النّدى ** يَزيدِ سُليْم والأغَرّ ابننِ حاتم

وعلى الوجهين يجوز في قوله: {ويوم لا يسبتون} أن يكون المعنى والأيامَ التي لا يحرم العمل فيها، أي أيام الأسبوع، لا تأتي فيها الحيتان، وأن يكون المعنى وأيامَ السبوت التي استحلوها فلم يكفوا عن الصيد فيها يَنقطع فيها إتيان الحيتان، ولا يخفى أن لا يثار هذا الأسلوب في التعبير عن السبت خصوصية بلاغية، ترمي إلى إرادة كلا المعنيين.
فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم، وقرينته قوله تعالى: {كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع.
وجملة {كذلك نبلوهم} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لجواب سؤال من يقول: ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يَرعوون عن انتهاك حرمة السبت.
والإشارة إلى البلوى الدال عليها {نبلوهم} أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم، وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} في سورة البقرة (143).
وأصل البلوى الاختبار، والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازًا عقليًا أي ليبلَو الناس تمسكهم بشرائِع دينهم.
والباء للسببية وما مصدرية، أي بفسقهم، أي توغلهم في العصيان أضراهم على الزيادة منه، فإذا عرض لهم داعِيهِ خفُّوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}.
هنا سؤال عن القرية التي كانت حاضرة البحر، ونعلم أن القرية الأولى التي دخلوها هي بيت المقدس ولم تكن على البحر، والقرية التي كانت على البحر هي أيلة أو مدين أو طبرية، المهم أنها كانت {حاضرة البحر} أي قريبة من البحر ومشرفة عليه؛ لأننا نقول فلان حضر، أي كان بعيدًا فاقترب. فمثل الإِسكندرية يمكن أن نسميها حاضرة البحر.
وقوله: {واسألهم} والسؤال هنا موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوجه السؤال إلى أهل الكتاب، ويطلب منهم أن ينظروا في كتبهم ليعرفوا أن ما يقوله هو وحي من الله إليه؛ لأنهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس إلى معلم، ولم يقرأ في كتاب، وإنما علّمه من أرسله، إنّه صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يَعْلَم منهم، بل يريد أن يُعْلِمَهم أنه يعلم، وهم يعلمون أنه لا مصدر له كعلم سائر البشر؛ لا جلس على معلم ولا قرأ في كتاب ولذلك تجد ماكُنَّات القرآن أي قوله الحق: {ما كنت} و{ماكنت} و{ما كنت} و{ما كنت} مثل قوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر...} [القصص: 44].
ومثل قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا...} [القصص: 45].
ومثل قوله تعالى: {... وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
إذن فأنت يا رسول الله لم تكن معهم لتقول ما حدث وحصل لهم، بل إن ذلك موجود عندهم في كتبهم، إذن فالذي علمك هو من أرسلك. كذلك هنا مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48].